التنوع العصبي بين ثغرات الرؤية الطبية وضرورة التحول المجتمعي
ظهر مصطلح التنوع العصبي بدايةً في الخطاب الصحفي والحقوقي، ثم انتقل بالتدريج إلى النقاش الأكاديمي. جوهر هذا المفهوم هو رفض النظر إلى الاختلافات العصبية مثل التوحّد وغيره من الاضطرابات النمائية باعتبارها أمراضاً وعيوباً، والاعتراف بها كأنماط طبيعية ضمن التنوع البشري. الطب النفسي والتصنيف التقليدي الطب النفسي، ممثلاً في مراجعه التي يستدل ويشخّص عن طريقها (الدليل التشخيصي الإحصائي، والتصنيف الدولي للأمراض)، يعتبر هذه الحالات اضطرابات نمائية عصبية. ورغماً عن أن الغرض المعلن هو تسهيل التشخيص وتوحيد المعايير وتحديد سبل العلاج والدعم، فإن هذه الأدوات ليست بريئة تماماً، فهي تُبنى غالباً على تعريف الوظيفة الطبيعية مقارنة بالمتوسط الإحصائي، مما يحصر ويأطر الاختلاف في خانة كونه اختلالاً. كما أن التصنيف حين يُستخدم من قبل المؤسسات، مثل مؤسسات التعليم ومؤسسات التأمين، يُستعمل كمعيار يحدد من يستحق الدعم ومن لا يستحقه، مما يحوّل التشخيص أحياناً إلى أداة إقصاء. وبالطبع يظل التركيز الطبي منصبّاً على الأعراض والنواقص أكثر من نقاط القوة والإمكانات التي تميز الأفراد المتنوعين عصبياً.
الحاجة إلى مصطلح التنوع العصبيومن هنا تبرز الحاجة لمصطلح مثل التنوع العصبي، فهو يعيد صياغة الصورة الذهنية: فبدلاً من أن يكون الفرد مريضاً، يُنظر إليه كـ”مختلف”، وبدلاً من أن يُوصم بالعجز يُمنح اعترافاً بقدراته الفريدة مع الإقرار بحاجته أحياناً إلى دعم بيئي ومؤسسي. حيث إن مصطلح التنوع العصبي لا يلغي الحاجة للطب والتشخيص أبداً، لكنه يضع المجال الطبي، ممثلاً بأدلته التشخيصية، في زاوية تجبره أن يواجه ثغراته: هل الهدف هو إعادة الفرد إلى المعيار “الطبيعي” باختلاف تعريفه طبياً، أم تمكين الفرد ليعيش حياة ذات معنى بطريقته الخاصة؟
إشكالية تعريف (الطبيعي)ومما يؤدي بنا إلى تعريف “الطبيعي”، فإن مجالاً مثل الطب النفسي يحدد الاضطرابات بناءً على كونها شذوذاً عن المتوسط الطبيعي، فكلما قلت نسبة البشر الذين يؤدون تصرفات معينة بطريقة معينة وظروف معينة، كلما اقتربوا أكثر ليُشخَّصوا باضطراب ما. وهذه المقاربة بحد ذاتها تزيد الطين بلة، فمدرسة الطب النفسي الحالية لا تعترف بالتنوع البشري، بل بسمات وأعراض يتم تشخيصك على أساسها بأحد الاضطرابات الموجودة بالكتب. ولسهولة هذه المنهجية فهي المعتمدة في الحقيقة، وهو ما يجعل الطب النفسي في موقع شك من أفراد المجتمع، وتخضع فعاليته لملاحظات كثيرة. بالطبع لا يمكن إنكار أن غياب التشخيص يعرّض الأفراد للحرمان من الخدمات والتسهيلات التي يحتاجون إليها، ولكن في المقابل الاعتماد على التصنيف وحده يصنع نوعاً من النظرة الاختزالية: أبيض/أسود، طبيعي/غير طبيعي، وهلم جراً. فنقاط التحسين هنا كثيرة، أولها توسيع المنظور الطبي ليشمل مكامن القوة والاعتراف بالاختلاف كجزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية لا كخلل أو اضطراب معين. ومن ثم نأتي إلى تطوير السياسات التعليمية والاجتماعية بحيث يبدأ التشخيص في فقد وصمته ليكون عاملاً مُمكِّناً للأفراد لا إقصائياً، مع جمع الخطاب الطبي بالخطاب الحقوقي. ففي مجال مثل الطب، وهو مجال حساس لا يمكن فصله عن مجالات عديدة مثل حقوق الإنسان، لا بد أن يُراعى في الخطاب الطبي حقوق المريض، وألا يتم التعامل مع التشخيصات والاضطرابات بنظرة علمية بحتة، بل تدرس جوانبها الإنسانية وتأثيرها في حقوق الإنسان والوصول إلى الخدمات والتسهيلات. كما نرى، فإن توقيع أو ختم طبيب على تقرير فرد بأن تشخيصه بالتوحّد معتمد، ليس ورقة تجري بين المكاتب أبداً، بل وثيقة قد تساهم في حرمان الفرد من العديد من حقوقه، وفي الوقت نفسه إعطائه مميزات وتسهيلات أخرى. فورقة بسيطة قد تكلف حياة كاملة. لذلك، لا بد أن يرى الطبيب أن المريض أو الحالة الماثلة أمامه إنسان، بكامل قدراته وبكامل منظومته الاجتماعية، ولا بد أن يوازن الطب بين الدعم والتشخيص والاعتراف بالكرامة الإنسانية المقدسة.
إشكالية تعريف (الطبيعي)ومما يؤدي بنا إلى تعريف “الطبيعي”، فإن مجالاً مثل الطب النفسي يحدد الاضطرابات بناءً على كونها شذوذاً عن المتوسط الطبيعي، فكلما قلت نسبة البشر الذين يؤدون تصرفات معينة بطريقة معينة وظروف معينة، كلما اقتربوا أكثر ليُشخَّصوا باضطراب ما. وهذه المقاربة بحد ذاتها تزيد الطين بلة، فمدرسة الطب النفسي الحالية لا تعترف بالتنوع البشري، بل بسمات وأعراض يتم تشخيصك على أساسها بأحد الاضطرابات الموجودة بالكتب. ولسهولة هذه المنهجية فهي المعتمدة في الحقيقة، وهو ما يجعل الطب النفسي في موقع شك من أفراد المجتمع، وتخضع فعاليته لملاحظات كثيرة. بالطبع لا يمكن إنكار أن غياب التشخيص يعرّض الأفراد للحرمان من الخدمات والتسهيلات التي يحتاجون إليها، ولكن في المقابل الاعتماد على التصنيف وحده يصنع نوعاً من النظرة الاختزالية: أبيض/أسود، طبيعي/غير طبيعي، وهلم جراً. فنقاط التحسين هنا كثيرة، أولها توسيع المنظور الطبي ليشمل مكامن القوة والاعتراف بالاختلاف كجزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية لا كخلل أو اضطراب معين. ومن ثم نأتي إلى تطوير السياسات التعليمية والاجتماعية بحيث يبدأ التشخيص في فقد وصمته ليكون عاملاً مُمكِّناً للأفراد لا إقصائياً، مع جمع الخطاب الطبي بالخطاب الحقوقي. ففي مجال مثل الطب، وهو مجال حساس لا يمكن فصله عن مجالات عديدة مثل حقوق الإنسان، لا بد أن يُراعى في الخطاب الطبي حقوق المريض، وألا يتم التعامل مع التشخيصات والاضطرابات بنظرة علمية بحتة، بل تدرس جوانبها الإنسانية وتأثيرها في حقوق الإنسان والوصول إلى الخدمات والتسهيلات. كما نرى، فإن توقيع أو ختم طبيب على تقرير فرد بأن تشخيصه بالتوحّد معتمد، ليس ورقة تجري بين المكاتب أبداً، بل وثيقة قد تساهم في حرمان الفرد من العديد من حقوقه، وفي الوقت نفسه إعطائه مميزات وتسهيلات أخرى. فورقة بسيطة قد تكلف حياة كاملة. لذلك، لا بد أن يرى الطبيب أن المريض أو الحالة الماثلة أمامه إنسان، بكامل قدراته وبكامل منظومته الاجتماعية، ولا بد أن يوازن الطب بين الدعم والتشخيص والاعتراف بالكرامة الإنسانية المقدسة.
التعليقات
🔑 سجّل الدخول للتعليق أو الإعجاب.
لا توجد تعليقات بعد.