العقل البشري يمرّ بأزمة
لطالما كان العقل البشري أحد أعظم الموجودات في هذا الكون. فبكل المقاييس هو عضو إعجازي، لا من حيث تركيبته البيولوجية فحسب، بل من حيث قدرته على الوعي والإدراك والتخيل. وليس في هذا انتقاص من بقية الأعضاء أو الكائنات التي تشاركنا الحياة على هذا الكوكب، بل تأكيدٌ على أنّ هذا العضو تحديداً هو ما جعل الإنسان قادراً على فهم ذاته ومحيطه وتغيير مسار وجوده.
مرّ العقل البشري بمراحل عديدة؛ منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها يشعر ويقرأ محيطه ويتحسس المؤثرات، وصولاً إلى اليوم الذي أصبح فيه قادراً على التحليل والاستنتاج والتبرير. لكن في عصرنا الحالي، يبدو أن هذا المسار لم يعد صاعداً كما كان، بل أخذ منحىً مقلقاً نحو الانحدار. بدأت تظهر مصطلحات مثل “تعفّن الدماغ” وغيرها من المفاهيم التي تعبّر عن تراجع قدرات الإنسان الذهنية، ليس من باب التوصيف الطبي، بل كمؤشرات ثقافية وسلوكية على أزمة معرفية شاملة.
ماذا يحصل للعقل البشري اليوم؟
العقل البشري اليوم أصبح يستهلك أكثر مما ينتج. يستهلك المثيرات، الصور، والمعلومات من كل صوب من الإنترنت، ومن الواقع أيضاً لكن دون أن يحوّلها إلى معرفة. أصبحنا نعيش على جرعاتٍ قصيرةٍ من الانتباه؛ تغريدات، مقاطع، عناوين، ومؤثرات سريعة الإشباع. ليس في هذه الوسائط عيبٌ بحدّ ذاتها، إنما الخلل في طبيعة المحتوى وطريقة التفاعل معه. فالعقل الذي يتعوّد على التحفيز الفوري يفقد تدريجياً قدرته على الصبر، وعلى التفكير الطويل والعميق.
نلاحظ جميعاً هذا التشوّش في الذاكرة وصعوبة التركيز، لكنّنا نميل لتفسيره بنظريات المؤامرة؛ نلوم المنتجات، اللقاحات، أو التكنولوجيا ذاتها. غير أن المشكلة في جوهرها ليست خارجية، بل داخلية؛ في كيفية تشكّل أدمغتنا تحت وطأة الاستهلاك المتواصل للمثيرات السطحية. فالعقل البشري كيانٌ مرن، وهذه المرونة هي ما جعله عظيماً وقابلاً للتطور، لكنها اليوم تحوّلت إلى مصدر خطرٍ جديد.
المرونة العصبية: سلاح ذو حدّين
حين نقول إنّ العقل مرن، فنحن نشير إلى ما يُعرف باللدونة العصبية (Neuroplasticity)، وهي قدرة الدماغ على تكوين روابط جديدة وإضعاف أخرى استجابةً للتجربة والتكرار. هذه الخاصية تفسّر كيف يمكن لطالبٍ جامعي أن يطوّر مهارة عالية في التعلّم بينما يعجز موظفٌ منذ سنواتٍ عن العودة إلى الدراسة بنفس السهولة، رغم أنهما من الفئة العمرية نفسها. الطالب درّب دماغه على استقبال المعلومات الجديدة، بينما درّب الموظف دماغه على نمطٍ ثابت من الأداء لا يحتاج إلى التعلم المستمر.
هذه اللدونة، التي مكّنت الإنسان من التكيّف والبقاء، أصبحت اليوم تعيد تشكيله بطريقةٍ مقلقة. فالتحفيز المستمر والسريع يعيد برمجة الدماغ ليفضّل المكافأة الفورية على الجهد الطويل، ويضعف قدرته على التركيز والتحليل. لم يعد العقل يتدرّب على البناء المنطقي للمعلومة، بل على التنقّل بين المثيرات دون تثبيتٍ لأي معنى حقيقي.
أزمة الوعي في عصر التقنية
تغيّرت علاقة الإنسان بمصادر المعرفة جذرياً. لم تعد التكنولوجيا امتداداً للعقل، بل أصبحت تحلّ محلّه تدريجياً. لم يعد الإنسان هو الذي يستخدم أدواته، بل الأدوات هي التي تعيد تشكيله من الداخل. يظهر هذا التحوّل في تفاصيل الحياة اليومية: صعوبة القراءة الطويلة، النفور من الصمت، والشعور الدائم بالملل في غياب التحفيز الخارجي.
وفي مفارقة لافتة، بينما تتطور علوم الدماغ والذكاء الاصطناعي بسرعةٍ مذهلة، يتراجع المستخدم العادي معرفياً. صار أقل قدرة على التفكير النقدي، وأكثر اعتماداً على الخوارزميات لتحديد ما يراه ويعتقده. الحضارة تتقدّم، لكن الإنسان نفسه ينكمش في وعيه.
انكماش الوعي الإنساني
انكماش الوعي الإنساني هو أخطر ما يواجه الحضارة المعاصرة، لأنه يحدث بصمتٍ وبدون مقاومة. فبينما يبدو الإنسان الحديث أكثر علماً واتصالاً، فإنه في العمق أقل وعياً وأضيق أفقاً. إنّ الوفرة الهائلة للمعلومات لا تعني بالضرورة اتساعاً في الفهم، بل قد تعني العكس تماماً؛ إذ تُغرق العقل في ضجيجٍ دائم يمنعه من رؤية الصورة الكاملة.
في الماضي، كان الوعي الإنساني يتشكل من التجربة، من التفاعل الحي مع الواقع المادي والاجتماعي، من القراءة البطيئة، ومن النقاشات التي تتطلب جهداً وتحليلاً. أما اليوم، فإن مصادر الوعي تُستبدل بمحتوى جاهز، سريع الهضم، وموجّهٍ سلفاً. لم يعد الإنسان يصوغ رأيه عبر التفكير، بل عبر الانفعال اللحظي بما يراه في شاشته. تتراجع بذلك القدرة على التساؤل، وعلى الشكّ المنهجي الذي كان أساس كل تقدم فكري.
ينكمش الوعي حين يفقد الإنسان قدرته على إدراك السياق، فيرى الأحداث منعزلةً عن جذورها، والأفكار بلا عمقٍ أو تاريخ. فتتشكل عقلية سطحية لا ترى إلا ما يظهر أمامها، ولا تسأل عما وراءه. وهكذا يُختزل التفكير إلى ردّات فعل، ويغدو الوعي استهلاكياً، يعيش على ما يُقدّم له لا على ما يصنعه بنفسه.
هذا الانكماش لا يقتصر على الأفراد، بل يمتدّ إلى الوعي الجمعي. نرى مجتمعاتٍ بأكملها تُقاد بخوارزميات، تشكّل تصوّراتها السياسية والاجتماعية من خلال تدفقٍ لا نهائي من الصور والمقاطع والمقارنات الزائفة. ومع مرور الوقت، يفقد الإنسان حسّ الواقع، فلا يعود يفرّق بين ما يراه على الشاشة وما يعيشه في العالم الحقيقي. يصبح الواقع الرقمي أكثر “إقناعاً” من الواقع نفسه.
إنّ انكماش الوعي هو عملية إعادة توجيه للذكاء البشري نحو السطح، نحو ما هو فوري وسهل، على حساب العمق والبطء والتأمل. وهذا أخطر من الجهل ذاته، لأن الجاهل يدرك أنه لا يعلم، أما المقتنع بمعرفةٍ زائفةٍ فقد انغلق على وهمه تماماً.
ولذلك، فإن مقاومة هذا الانكماش لا تكون بزيادة المعلومات، بل بإعادة بناء الوعي نفسه: عبر القراءة التحليلية، والممارسة الفكرية النقدية، والتفاعل المقصود مع الواقع المادي. فالعقل لا يتوسع بالمعرفة الكمية، بل بنوعية الأسئلة التي يطرحها، وبقدرته على ربط الأجزاء ببعضها ضمن كلٍّ متماسك.
إنّ أخطر ما يمكن أن يحدث للعقل البشري ليس أن يُخطئ، بل أن يفقد رغبته في الفهم، أن يرضى بالسطح، وأن يتعامل مع ذاته ككائنٍ متلقٍّ لا مبدع. عند تلك النقطة، يكون الانكماش قد اكتمل، ويصبح الإنسان موجوداً بيولوجياً فحسب، بلا وعيٍ يُميّزه، ولا تفكيرٍ يبرر وجوده.
طريق الخروج من الأزمة
الطريق للخروج من هذه الأزمة لا يمرّ برفض التقنية أو الهروب من الواقع الرقمي، بل بإعادة توجيه اللدونة العصبية نحو التعلم المقصود. أن يتعلم الإنسان كيف يدرّب دماغه من جديد؛ على التركيز، على القراءة العميقة، على التفكير البطيء والمنطقي. فكما تشكّل الدماغ على نمط الاستهلاك السريع، يمكنه أن يُعاد تشكيله على الإدراك الواعي إذا وُجّه بوعيٍ وانضباط.
في النهاية، لا يمكن القول إنّ العقل البشري ينهار، بل هو يُعاد تشكيله في اتجاهٍ لم نضبطه بعد. الأزمة ليست في الأدوات التي نستخدمها، بل في الطريقة التي نسمح بها لهذه الأدوات أن تُعيد صياغة عقولنا.
التعليقات
🔑 سجّل الدخول للتعليق أو الإعجاب.
لا توجد تعليقات بعد.