لست من الشرق ولا من الغرب..
أنا لست من الشرق ولا من الغرب
كم من مرةٍ افترضنا أن اختلاف الانتماء يعني اختلاف القيمة؟ كم من مرةٍ جعلنا من الجغرافيا مقياساً للإنسان، ومن اللهجة مبرراً للحكم عليه؟ ما إن نسمع صوتاً بلكنـةٍ غريبة أو نرى ملامح لا تشبه ملامحنا حتى ينشط فينا هذا الإحساس الغريزي بالتفريق، وكأننا نحتاج دائماً أن نعرف "من أين أنت؟" قبل أن نعرف "من أنت؟".
ربما هو طبيعي أن يلاحظ الإنسان الغريب في بيئته، فالعقل ميّال إلى تصنيف كل جديد. لكن غير الطبيعي أن يتحول هذا التصنيف إلى حاجزٍ نفسي، أن نصبح سجناء تصنيفاتنا، نحكم على الناس من موقعهم لا من فعلهم، من نسبهم لا من وعيهم. لماذا نصرّ على الاعتراف بالاختلاف كعائقٍ بدلاً من اعتباره تنوعاً في شكل واحدٍ للحياة؟ لطالما رأيت كيف يمكن لنكتةٍ أو مزحةٍ اجتماعية أن تحمل في داخلها بذور الكراهية. "أنت بدوي"، "أنت حضري"، "أنت من الطبقة الفلانية"... عباراتٌ تمرّ في الحديث اليومي دون أن ننتبه إلى أثرها المتراكم في اللاوعي الجمعي، تصنع طبقاتٍ خفية من النفور والتفاخر، ثم ننكر أننا عنصريون. الحقيقة أن العنصرية لم تختفِ، بل تحوّلت من فعلٍ صريح إلى شعورٍ مبرّرٍ ومُقنَّع.
حين قال الرومي: "أنا لست من الشرق ولا من الغرب" لم يكن يحدّد موقعه، بل يحرّره. كان يقول إن الإنسان لا يجب أن يُختزل في جهةٍ أو هويةٍ أو انتماء. فالإنسان أوسع من الخرائط، وأعمق من الحدود. ومع ذلك ما زلنا نبني لأنفسنا جدراناً ونضع فوقها أعلاماً ونسميها أوطاناً، ثم نُقاتل دفاعاً عنها وكأننا ندافع عن أنفسنا، بينما الحقيقة أننا ندافع عن سجوننا الرمزية.
نحن أبناء النوع نفسه، Homo sapiens. نتنفس الأكسجين ذاته، نحمل الخوف ذاته، ونبحث عن الأمان ذاته. ومع ذلك، نبدع في اختراع أسبابٍ لرفض بعضنا. كيف يمكن لكائنٍ يدّعي الوعي أن يعجز عن إدراك أنه واحدٌ من نوعٍ واحد؟ كيف يمكن أن نرسل الأقمار إلى المريخ ولا نزال نعجز عن عبور المسافة بين قلبين على الأرض؟
ربما الوعي الذي تفاخرنا به صار لعنتنا. أسلافنا الأوائل لم يسألوا عن الأصل أو اللون، بل عن البقاء. كانوا يعيشون بدافع الحياة، لا بدافع الكراهية. نحن الذين حمّلنا الوعي أكثر مما يحتمل، صنعنا منه قيداً بدل أن نجعله وسيلة للتحرر.
اخوتي أبناء الهومو سابين،
اعقلوا، ولا تجعلوا حدود الأرض حدودَ عقولكم، فالإنسان، في جوهره، لا وطن له إلا الإنسانية نفسها.
التعليقات
🔑 سجّل الدخول للتعليق أو الإعجاب.